أن تنجو بلطف | حكاية الخطوات الخفيفة فوق الجراح الثقيلة
المقدمة
لم أنجُ لأُبهِر أحدًا،
لم أمشِ كي أحصل على تصفيق،
ولم أتجاوز كل ذلك الألم لأثبت شيئًا لأحد.
نجوت لأن قلبي، رغم ثقله، رفض أن يغلق أبوابه.
نجوت لأن في داخلي شعلة صغيرة، مهما اجتاحها التعب، ظلت تهمس لي في الظلام:
“كملي… لم تصلي إلى هنا عبثًا.”
كل خطوة تركتُ خلفها وجعًا، وكل وجعٍ علمني كيف أمشي خفيفة نحو ذاتي.
لم أكن امرأة تبحث عن نهاية سعيدة…
كنت امرأة تزرع قدميها في الأرض، رغم كل الرياح، فقط لأنها تؤمن أن الجذور التي تحب الحياة لا تموت.
ولهذا أمشي، وأمشي…
لا لأن الطريق دائمًا معبدة، ولا لأن الخوف غاب،
بل لأنني اخترت أن لا أكون أسيرة العتمة،
اخترت أن أكون أنا — بكل ما فيَّ من شروخ وضوء، من تعب وابتسامة، من حنين ومضي قُدُمًا.
حين بدأت أسمع صوتي
كانت السماء تذوب في البحر،
ألوان باهتة من الرمادي والأزرق تتداخل فوق صفحة الماء الهادئ كأن الكون كله يهمس بأن شيئًا ما ينتهي، وشيئًا آخر يولد.
خطوتي الأولى فوق الرمل الرطب لم تكن واثقة، ولا مترددة… كانت فقط حقيقية.
كان البحر يتنفس بهدوء، والموج يلامس أطراف قدميّ بخجل.
وكأن العالم كله كان يطلب مني شيئًا واحدًا فقط: أن أنصت.
توقفت. أغمضت عيني.
لأول مرة منذ وقت طويل — لم أسمع أصوات الخوف، ولا صدى الذين حاولوا أن يخبروني كيف يجب أن أكون.
سمعت شيئًا آخر…
شيئًا أرق من الهمس، أقوى من كل الضجيج.
كان صوتي.
صغيرًا، خافتًا، لكنه لي.
يقول لي:
“أنا هنا… لم أمت رغم كل شيء.”
كل خطوة بعدها لم تكن مجرد مشي،
كانت عودة — هادئة، مترددة، لكنها حقيقية — إلى امرأة كانت ضائعة عن نفسها،
وها هي تسمع صوتها لأول مرة وكأنها تكتشف وطنًا كان يسكنها دائمًا.
بينما كنت أتعلم أن أختارني
لم يكن سماع صوتي نهاية الحكاية…
كان بداية معركة صامتة، مع كل شيء تعلمته ذات يوم ضد نفسي.
رأيت الوجوه التي أرهقتني، الكلمات التي مزقتني، الأيام التي أثقلت ظهري.
تذكرت أنني نسيت نفسي كثيرًا لأرضي من لا يستحق.
خفضت صوتي كي لا أزعج من لم يكن يومًا منصتًا.
أدركت فجأة أنني لم أخسرهم فقط، بل كنت أخسرني معهم… جزءًا جزءًا، صوتًا صوتًا، نورًا نورًا.
هناك، وقفت أمام اختياري الكبير:
أن أختارني.
لا أعتذر عن قلبي حين يخفق، ولا عن فرحي حين ينفلت،
ولا عن حزني حين يتسلل إلى صوتي.
وهكذا…
رغم التردد، رغم التعب، رغم الخوف،
كنت أختار أن أمشي خفيفة نحو ذاتي — هذه المرة، حتى النهاية.
حين وقفتُ للمرة الأولى دون خوف
لم يكن الوقوف سهلاً كما ظننت.
أن تختار نفسك شيء، وأن تقف بثبات خلف هذا الاختيار شيء آخر.
مشيت وسط العالم كما أنا، دون تبرير، دون خوف، دون أن أطلب من أحد أن يصدقني أو يحملني.
لم أعد أعتذر عن وجودي،
ولم أعد أنتظر تفسير من لا يراني.
كنت هناك، بثقلي وخفتي، بشروخي وضوئي،
وكنت كافية.
وهكذا…
فهمت أن الشجاعة ليست في الصراخ، ولا في العناد،
بل في أن تقف، بثبات هش، وتهمس للعالم كله:
“أنا هنا… ولن أتراجع عن نفسي بعد اليوم.”
حين التقيتُ بما كنت أهرب منه
لم أبحث عن اللقاء.
لكنه جاء دون موعد.
عدت إلى الأماكن القديمة بعيون لم تعد تبكي، بقلب لم يعد يرتجف.
رأيت الجراح كما هي،
الخيبات كما هي،
الحب الناقص كما هو.
ولم أشعر بالحقد، ولا بالمرارة،
شعرت فقط أنني نجوت.
وهكذا، حين التقيت بما كنت أهرب منه،
لم أعد أراه عدوًا،
بل رأيته شاهداً على امرأة اختارت أن تمضي خفيفة —
تحمل نفسها فقط، لا ماضي أحدٍ آخر.
حين بدأت أبني عالمي بيدي
لم يكن البناء سهلاً، ولم يكن واضحًا.
كنت ألتقط قطعًا صغيرة من نفسي، أرتبها كما أشاء، لا كما أرادوا.
بدأت أختار الكتب التي تعنيني، العلاقات التي تشبهني، الأحلام التي تسقي قلبي.
لم يكن البناء سريعًا.
ولم يكن دائمًا مستقيمًا.
لكن كل حجر وضعته، كان إعلانًا صغيرًا:
أنني لم أعد أسكن بيوتًا يبنيها الآخرون باسمي.
وهكذا، مع كل خطوة هادئة،
كنت أنقذ قلبي من الغرق،
وأعيده، بهدوء، إلى ضفّة الحياة التي لطالما حلم بها بصمت.
حين عشتُ ما كان مجرد حلم
لم يكن حلمي مشهدًا معلّقًا في الخيال،
كان طريقًا صامتًا مشيته وحدي،
خطوة بخطوة،
دمعة بعد دمعة،
نورًا بعد عتمة.
لم أحقق المستحيل.
لم أعتلِ القمم.
لكنني فتحت نوافذي الصغيرة على الشمس،
صنعت قهوتي بيدي،
ضحكت دون خوف أن أُساء فهمي،
وبكيت دون خجل أن يُقال عني “ضعيفة.”
وهكذا، دون ضجيج،
عشت الحلم الذي كنت أراه بعيدًا…
حين أدركت أن الحلم لم يكن مكانًا أصل إليه، بل طريقة أحب بها نفسي كل يوم.
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
إرسال تعليق