خرافة تعدد المهام – لماذا تفشل رغم أنك مشغول طوال الوقت؟
خرافة تعدد المهام – لماذا تفشل رغم أنك مشغول طوال الوقت؟
في كل مرة نُقنع أنفسنا بأننا ننجز أكثر من خلال تنفيذ عدة مهام في وقت واحد، نحن في الحقيقة نُجهد أدمغتنا دون وعي. كتاب "العقل المنظم" للدكتور دانييل ليفيتين يهدم هذه الخرافة بصرامة علمية، موضحًا أن الدماغ البشري ليس آلة متعددة الأنظمة بل كيان يحتاج إلى التركيز العميق والبيئة المنظمة كي يبدع ويزدهر.
نحن لا نعدّد المهام، بل نُجزّئ وعينا. كل مرة تنتقل فيها من مهمة إلى أخرى، أنت تُجبر عقلك على إعادة التهيئة، وهذا يُكلّفك وقتًا ذهنيًا ثمينًا لا تلاحظه، لكنه يتراكم كالإرهاق النفسي والعقلي، حتى تجد نفسك في نهاية اليوم منهكًا دون إنجاز يُذكر.
الدماغ لا يتقن التبديل السريع
في أعماق الدماغ، يُعرف مركز اتخاذ القرار بـ"القشرة الجبهية الأمامية"، وهو المسؤول عن التركيز والتخطيط والتحليل. عندما تُقحمه في أكثر من مهمة، ينهار التوازن الداخلي، فتزداد الأخطاء، ويقل التركيز، ويضعف الإبداع.
أثبتت الدراسات التي أوردها ليفيتين أن التنقل المستمر بين المهام يؤدي إلى انخفاض بنسبة 40٪ في الإنتاجية. والأسوأ من ذلك، أن الدماغ يستهلك طاقة ذهنية إضافية ليعيد ترتيب أولوياتك في كل مرة تعود لمهمة كانت جارية.
لماذا ننجذب إلى تعدد المهام؟
لأنها تعطينا إحساسًا زائفًا بالإنتاجية. فنحن نرد على رسالة، نفتح تبويبًا جديدًا، نتابع إشعارًا، نشعر بأننا "نُنجز". لكن في الواقع، لا شيء يكتمل. نشعر بالانشغال، لا بالإنجاز. وهنا يكمن الفخ الذهني.
لقد أصبحت بيئتنا الرقمية ساحة منبهات لا تهدأ. نحن نعيش في "ثقافة التنبيه" حيث كل تطبيق يتنافس على خطف انتباهك. وفي كل مرة تخضع فيها لهذا التنبيه، فإنك تؤجل قرارك الأهم: التركيز.
كيف نستعيد السيطرة؟
- خطط يومك مسبقًا: خصص أوقاتًا واضحة لمهام منفصلة، دون خلط.
- استخدم تقنية البومودورو: 25 دقيقة تركيز، تليها 5 دقائق راحة، تعيد لك انتباهك تدريجيًا.
- اجعل هاتفك صامتًا: نعم، لا مجرد كتم، بل اتركه بعيدًا أثناء المهام العميقة.
- قل لا للمقاطعات: اجعل من حقك أن ترفض التشتت، كما ترفض السرقة. وقتك هو أثمن ما تملك.
حكاية من الواقع
في إحدى تجارب ليفيتين، طُلب من مجموعتين أداء نفس المهمة، لكن واحدة منهما تتلقى إشعارات ورسائل وهمية أثناء التجربة. النتيجة؟ المجموعة التي تعرضت للمقاطعات احتاجت إلى وقت أطول بنسبة 50٪ وأخطاؤها كانت أكثر بثلاث مرات.
هذا مجرد نموذج مُصغّر لما يحدث في يومنا. كل إشعار صغير، كل رسالة، هو اختطاف غير مرئي لوعينا.
تأمل أعمق: ماذا يخبرنا العقل حين نرهقه؟
في كل مرة نحاول فيها فرض السرعة على طبيعتنا، يظهر الارتباك. العقل البشري لم يُصمَّم ليتعامل مع الانشغال الدائم، بل مع التركيز المتتابع. كل إشعار، كل صوت، كل قفزة من تبويب إلى آخر، تسرق منا القدرة على أن نكون حاضرين.
هناك جزء في الدماغ يُعرف بـ Default Mode Network، وهو الذي ينشط عندما نكون في حالة "عدم التفكير في شيء محدد". هذه الحالة ضرورية للراحة الذهنية، للإبداع، للاستبصار. تعدد المهام يمنع هذا الجزء من العمل، ويُبقينا في وضع الإنذار الدائم.
تخيّل أنك تسير في غابة، تحاول استكشاف جمال الأشجار، ولكن كل بضع خطوات يصرخ أحدهم في أذنك. هل يمكنك أن ترى؟ أن تشعر؟ أن تتنفس؟ هذا هو حال العقل المُنهك بتعدد المهام.
من منظور علم الأعصاب
أشارت الدراسات الحديثة إلى أن تعدد المهام يؤثر على كثافة المادة الرمادية في الدماغ، وخصوصًا في منطقة anterior cingulate cortex المسؤولة عن تنظيم الانتباه. الأشخاص الذين يعتمدون على تعدد المهام كعادة دائمة، غالبًا ما يُظهرون ضعفًا في اختبار السيطرة المعرفية، ويُعانون من انخفاض مرونة التفكير.
الأمر لا يتعلق فقط بانخفاض الأداء، بل بتغيير هيكلي في الدماغ نفسه على المدى الطويل. وهو ما يجعل من التنظيم الذهني أولوية ليس فقط لتحسين حياتنا اليومية، بل لحماية عقولنا من الانهيار المستقبلي.
تجارب شخصية ملهمة
في حوار مع إحدى المدربات التنفيذيات، قالت إنها كانت تعتقد أن قدرتها على إنجاز عشرات المهام في آن واحد هي سرّ نجاحها. لكنها في لحظة انهيار، أدركت أنها كانت فقط تستهلك نفسها. بعد قراءة "العقل المنظم"، قررت أن تُخصص لكل مهمة وقتًا صافيًا، وأن تفصل بين العمل والحياة الشخصية. بعد أسابيع فقط، لاحظت تحسنًا في نوعية نومها، وعلاقاتها، وإنجازها.
التغيير يبدأ من قرار بسيط: أن تُعطي عقلك الإذن بالتنفس.
تمرين عملي من توازن
اجلس في مكان هادئ، بدون هاتف، بدون موسيقى، فقط ورقة وقلم. اكتب مهمة واحدة تهمك اليوم. ثم ضع هاتفك في غرفة أخرى، واضبط مؤقتًا لـ45 دقيقة. التزم بالعمل على هذه المهمة فقط. بعدها، خذ استراحة 10 دقائق. كرر ذلك 3 مرات. في نهاية اليوم، اسأل نفسك: كم مرة شعرت بالحضور الحقيقي؟
ستفاجأ بالفرق، ليس فقط في الإنجاز، بل في الشعور الداخلي بالهدوء والسيطرة.
خاتمة
في خضم هذا العصر الرقمي السريع، التركيز أصبح عملة نادرة. وكلما حاولت أن تكون "فائق الإنتاجية" عبر تعدد المهام، كلما خسرت من صفاءك وسلامك الداخلي.
الوعي هو البداية. نظم يومك، نظم أدواتك، ونظم عقلك. ولتكن هذه المقالة أول خطوة نحو استعادة سيطرتك على حياتك، بالتركيز لا التشتت.
في المقال القادم من سلسلة "العقل المنظم"، سنتناول نظام الذاكرة الخارجية والتفريغ العقلي... كيف يمكن لأدوات بسيطة أن تحرر عقلك من فوضى التذكر وتجعل إبداعك هو المتصدر.
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
إرسال تعليق